فتح خيبر
لم يكن بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبين يهود خيبرٍ عهد ،
بخلاف بني قنيقاع والنضير وقريضة ، فقد كان بينه الرسول ( صلى الله عليه
وآله ) وبينهم عهد ، ومعنى ذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) توجَّه
إليهم ليدعوهم إلى الإسلام ، أو قبول الجزية ، أو الحرب ، فلمَّا لم
يسلموا ولم يقبلوا الجزية حاربهم .
وكان يهود خَيْبَر مضاهرين ليهود غطفان على رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) ، وكان هذا سبب خروج النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) إليهم .
فقد ذكر ابن الأثير وغيره : أن يهود خَيْبَر كانوا مضاهرين ليهود
غطفان على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وإنَّ غطفان قصدت خَيْبَر
ليضاهروا اليهود فيها ، ثمّ خافوا المسلمين على أهليهم وأموالهم فرجعوا .
وكان المسلمون في هذه الغزوة ألفاً وأربعمائة ، ومعهم مِائتي فرس
، فلمّا نزلوا بساحتهم لم يتحرّكوا تلك الليلة حتّى طلعت الشمس ، وأصبح
اليهود ، وفتحوا حصونهم ، وغدوا إلى أعمالهم .
فلما نظروا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قالوا : محمد
والخميس ـ أي : الجيش ـ وولّوا هاربين إلى حصونهم ، فقال رسول الله ( صلى
الله عليه وآله ) : ( الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساء صباح المنذرين ) .
فحاصرهم بضع عشرة ليلة ، وكان أوّل حصونهم قد افتتح هو حصن ناعم ،
ثمّ القموص ، ثمّ حصن الصعب بن معاذ ، ثمّ الوطيح والسلالم ، وكان آخر
الحصون فتحاً حِصْن خَيْبَر .
وفي خيبر بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أبا بكر برايته ، وكانت بيضاء ، وعقد له ، فرجع ولم يَكُ فتح وقد جهد .
ثمّ بعث في الغد عمر بن الخطّاب برايته ، وعقد له أيضاً ، ومعه
الناس ، فلم يلبثوا أن هزموا عمر وأصحابه ، فجاءوا يجبِّنُونَه ويجبِّنُهم
كسابقه .
وخرجت كتائب اليهود يتقدّمهم ياسر ـ أو ناشر أخ مرحب ـ فكشفت
الأنصار حتّى انتهوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فاشتدَّ ذلك
على رسول الله ، وقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( لأبعَثَنَّ غداً رَجُلاً يُحبُّ اللهَ ورسولَه ، ويحبَّانه ، لا يولي الدبر ، يفتحُ الله على يَدَيه ) .
فتطاولت الأعناق لترى لمن يعطي الراية غداً ، ورجا كلّ واحد من
قريش أن يكون صاحب الراية غداً ، فلمّا أصبحوا دعا رسول الله ( صلى الله
عليه وآله ) الإمام علي ( عليه السلام ) ، فقيل له : إنّه يشتكي عينيه ـ
أي فيه رمد ـ .
فلما جاء الإمام علي ( عليه السلام ) أخذ ( صلى الله عليه وآله )
من ماء فمه ، ودَلَّك عينيه فَبَرئَتَا ، حتّى كأنْ لم يكن بهما وجع ، ثمّ
قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( اللَّهُمَّ اكفِهِ الحَرَّ والبَرْد ) ، فما اشتكى من عينيه ، ولا من الحَرِّ والبرد بعد ذلك أبداً .
فعَقَد ( صلى الله عليه وآله ) للإمام ( عليه السلام ) ، ودفع الراية إليه ، وقال له : ( قَاتِل ولا تَلتَفتْ حتّى يَفتح اللهُ عليك ) ، فقال الإمام علي ( عليه السلام ) : ( يَا رَسولَ الله ، عَلامَ أقاتِلُهُم ) ؟
فقال ( صلى الله عليه وآله ) : ( عَلى أن يَشهدوا أنْ لا إلَهَ
إلاَّ الله ، وأنِّي رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك حَقَنوا منِّي دماءهم
وأموالهم إلاّ بحقِّها ، وحِسابُهُم عَلى اللهِ عزَّ وَجلَّ ) .
فقال سلمه : فخرجَ والله يُهروِل وأنا خلفه ، نتَّبع أثره ، حتّى
ركز رايته تحت الحصن ، فخرج إليه أهل الحصن ، وكان أوّل من خرج إليه منهم
الحارث ـ أخ مرحب ـ وكان فارساً ، شجاعاً ، فانكشف المسلمون ، وثَبَتَ
الإمام علي ( عليه السلام ) ، فتضاربا ، فقتله الإمام علي ( عليه السلام )
، وانهزم اليهود إلى الحصن .
فلمّا علم مرحب أخاه قد قتل نزل مسرعاً ، وقد لبس درعين ،
وتقلَّد بسيفين ، واعتمَّ بعمامتين ولبس فوقهما مغفراً وحَجَراً قد أثقبه
قدر البيضة لعينيه ، ومعه رمح لسانه ثلاثة أشبار ، وهو يرتجز ويقول :
قَدْ علِمَت خَيْبَرُ أنِّي مَرْحَبُ ** شَاكي السِّلاح بَطلٌ مُجرَّبُ
أطعنُ أحياناً وحِيناً أضرِبُ ** إذا اللُّيوث أقبلَتْ تَلتَهِبُ
فردّ علي ( عليه السلام ) عليه ، وقال :
أنَا الذي سَمَّتْني أُمِّي حَيْدَرة ** أكِيلُكُم بالسَيف كَيل السَّـندَرَة
لَيثٌ بِغابَاتٍ شَديد قَسْوَرَة
وحيدرة : اسم من أسماء الأسد .
فاختلفا ضربتين ، فبدره الإمام علي ( عليه السلام ) فضربه ، فقدَّ
الحَجَرَ والمغفر ورأسه ، حتّى وقع السيف في أضراسه فقتله ، فكبَّر الإمام
علي ( عليه السلام ) ، وكبَّر معه المسلمون ، فانهزَم اليهود إلى داخل
الحصن ، وأغلقوا بابَ الحِصْن عَليهم .
وكان الحِصْنُ مُخَندقاً حوله ، فتمكَّن الإمام علي ( عليه
السلام ) من الوصول إلى باب الحصن فعالجه وقلعه ، وأخذ باب الحصن الكبيرة
العظيمة ، التي طولها ثمانون شبراً ، أي : أربعون ذراعاً ، فجعلها جِسراً
فَعبر المسلمون الخندق ، وظفروا بالحصن ، ونالوا الغنائم ؟
ولمّا انصرَفَ المسلمون من الحصن أخذ الإمام علي ( عليه السلام )
الباب بيمناه ، فَدَحى بِهَا أذرعاً من الأرض ، وكان الباب يعجزُ عن
فَتحِه أو غَلقِه اثنان وعشرون رجلاً منهم .
وقد قال الشاعر في ذلك :
يَا قَالِع البَابَ التي عَن فَتحِهِ ** عَجزَتْ أكفٌّ أربَعُون وأربَعُ
وكان هذا الفتح والنصر للمسلمين في السابع من شهر رمضان عام 7 هـ .