تبع الصفحة 451
لأنّهم يرَون صبيان الجيران وقد تزيّنوا في عيدهم ، وأصلحوا ثيابهم ، وهُم على هذه الحال مِن الثياب الرثّة ! فلو احتلت بشيءٍ تصرفه في كسوتهم! فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ ، فوجّه إليّ كيساً مختوماً ، ذكر إنّ فيه ألف درهم ، فما استقرّ قراري حتّى كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي ، فوجّهت إليه الكيس بحاله ، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مُستحياً مِن امرأتي .
فلمّا دخلت عليها استحسنت ما كان منّي ، ولم تعنّفني عليه .
فبينما أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته ، فقال لي : أصدقني عمّا فعلته فيما وجهّت إليك ؟
فعرّفته الخبَر على وجهه ، فقال : إنّك وجّهت إليّ وما أملك على الأرض إلاّ ما بعثت به إليك ، وكتبتُ إلى صديقنا اسأله المواساة فوجّه إليّ بكيسي! فتواسينا الآلاف أثلاثاً !
ثمّ نمي الخبَر إلى المأمون فدعاني ، فشرحت له الخبر ، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار ، لكلِّ واحدٍ ألفا دينار وللمرأة ألف دينار!(1) .
2 - الرعاية الأدبيّة :
وهكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد والأرزاء ما تسبّب إرهاقه وبلبلة حياته ، ويغدو آنذاك مفتقراً إلى النجدة والمساندة لإغاثته وتفريج كربه .
_____________________
(1) قصص العرب ج 1 ص 290 .
الصفحة 452
فحقيقٌ على أصدقائه الأوفياء أنْ يسارعوا إلى نصرته والذبِّ عنه ، لساناً وجاهاً ، لإنقاذه مِن أعاصير الشدائد والأزَمات ، ومواساته في ظرفه الحالك .
هذا هو مقياس الحبّ الصادق والعلاّمة الفارقة بين الصديق المُخلص مِن المزيّف .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( لا يكون الصديق صديقاً ، حتّى يحفظ أخاه في ثلاث : في نكبته ، وغيبته ، ووفاته )(1) .
وقال الشريف الرضي :
يعرّفك الإخوانُ كلٌّ بنفسه وخيرُ أخٍ مَن عرّفتك الشدائد
* * *
3 - المداراة :
والأصدقاء مهما حسُنت أخلاقهم ، وقويت علائق الودّ بينهم فإنّهم عرضة للخطأ والتقصير ، لعدَم عصمتهم عن ذلك . فإذا ما بدرت مِن أحدهم هناةٌ وهفوةٌ في قولٍ أو فعلٍ ، كخُلفِ وعد ، أو كلمةٍ جارحة أو تخلّف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك مِن صوَر التقصير .
فعلى الصديق إذا ما كان واثقاً بحبّهم وإخلاصهم ، أنْ يتغاضى عن إساءتهم
_____________________
(1) نهج البلاغة.
الصفحة 453
ويصفح عن زلَلهم حِرصاً على صداقتهم واستبقاءً لودّهم ، إذ المُبالغة في نقدهم وملاحاتهم ، باعثة على نفرتهم والحِرمان منهم .
ومَن ذا الذي ترضى سجاياه كلّها كفى المرءُ نُبلاً أنْ تُعدّ معائبه
انظر كيف يوصي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ابنه الحسن ( عليه السلام ) بمداراة الصديق المُخلص والتسامح معه والحفاظ عليه :
( احمل نفسك مِن أخيك عند صرفه على الصلة ، وعند صدوده على اللطف والمقاربة ، وعند جموده على البذل ، وعند تباعده على الدنو ، وعند شدّته على اللين ، وعند جرمه على العذر ، حتّى كأنّك له عبد ، وكأنّه ذو نعمةٍ عليك .
وإيّاك أنْ تضَع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله ، لا تتخذنّ عدوَّ صديقِك صديقاً فتعادي صديقك ، وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة ، وتجرّع الغيظ ؛ فإنّي لم أرَ جرعةً أحلى منها عاقبةً ولا ألذُّ مغبّة ، ولِن لِمَن غالَظك فإنّه يُوشك أنْ يلين لك ، وخُذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحلى الظَفَرين ، وإنْ أردت قطيعة أخيك فاستبقِ له مِن نفسِك بقيّةً ترجع إليها إنْ بدا له ذلك يوماً ما ، ومَن ظنَّ بك خيراً فصدّق ظنّه ، ولا تضيّعنّ حقّ أخيك اتّكالاً على ما بينك وبينه ؛ فإنّه ليس لكَ بأخٍ مَن أضعت حقّه )(1) .
وقال الإمام الحسن ( عليه السلام ) لبعض ولده :
( يا بُنَيّ ، لا تؤاخِ أحداً حتّى تعرف موارده ومصادره ، فإذا استبطنت
_____________________
(1) نهج البلاغة. في وصيّته لابنه الحسن ( عليه السلام ) .
الصفحة 454
الخبرة ، ورضيت العِشرة ، فآخه على إقالة العثرة ، والمواساة في العشرة )(1) .
وقال أبو فراس الحمداني :
لـم أُواخذك بالجفاء iiلأنّي واثقٌ منك بالوداد الصريح فـجميل العدوّ غير iiجميل وقبيح الصديق غير iiقبيح |
وقال بشّار بن بُرد :
إذا كُـنت فـي كـلّ الأُمور iiمعاتباً صـديقك لـم تـلقَ الذي لا iiتعاتبه
فـعِش واحـداً أو صِل أخاك iiفإنّه مـقـارفُ ذنـبٍ مـرّة ومـجانبه
إذا أنتَ لم تشرَب مِراراً على القذى ظـمِئت وأي الناس تصفو iiمشاربه
وقال أبو العلاء المعرّي :
مَن عاشَ غير مداج مَن يعاشره أسـاء عِشرة أصحابٍ وأخدان
كـم صاحبٍ يتمنّى لو نُعيتَ له وإنْ تـشكّيت راعاني iiوفدّاني
ومِن أروع صوَر مداراة الأصدقاء وأجملها وقْعاً في النفوس : الإغضاء عن إساءتهم والصفْح عن مسيئهم .
ولذلك مظاهرٌ وأساليبٌ رائعة :
1 - أنْ يتناسى الصديق الإساءة ويتجاهلها ثقةً بصديقه ، وحسن ظنٍّ به ، واعتزازاً بإخائه ، وهذا ما يبعث المُسيء على إكبار صديقه وودّه والحِرص على صداقته .
2 - أنْ يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه ، دونما تشدّد أو تعنّت في قبولها ، فذلك مِن سِمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان .
_____________________
(1) تُحف العقول .
الصفحة 455
3 - أنْ يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق ، استجلاباً لودّه ، فترك العتاب قد يُشعر بإغفاله وعدم الاكتراث به ، أو يُوهمه بحنق الصديق عليه وإضمار الكيد له .
ولكنّ العتاب لا يجدي نفعاً ولا يستميل الصديق ، إلاّ إذا كان عاطفيّاً رقيقاً كاشفاً عن حبِّ العاتب ورغبته في استعطاف صديقه واستدامة ودّه ، إذ العشرة فيه والإفراط منه يُحدّثان ردّ فعلٍ سيّئ يُضاعف نفار الصديق ويفصم عُرى الودِّ والإخاء .
لذلك حثّت الشريعة الإسلامية على الصفح والتسامح عن المسيء ، وحسن مداراة الأصدقاء خاصّة ، والناس عامّة .
قال تعالى : ( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )( آل عمران : 159 ) .
وقال سُبحانه : ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ )( حم السجدة : 34 - 35 ) .
وعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : أمرني ربّي بمداراة الناس ، كما أمَرني بأداء الفرائض )(1) .
وقال ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( أعقَل الناس أشدُّهم مداراةً للناس )(2) .
_____________________
(1) الوافي . ج 3 ص 86 عن الكافي .
(2) معاني الأخبار للصدوق .
الصفحة 456
والجدير بالذكر أنّ مِن أقوى عوامل ازدهار الصداقة وتوثيق أواصر الحبّ والإخلاص بين الأصدقاء ، هو أنْ يتفادى كلٌّ منهم جهده عن تصديق النمّامين والوشاة المُغرَمين بغرس بذور البغضاء والفرقة بين الأحباب وتفريق شملهم ، وفصم عُرى الإخاء بينهم . وهؤلاء هُم شرار الخلْق كما وصَفَهم رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) حيث قال : ( ألا أُنبئكم بشراركم ؟ ) .
قالوا : بلى يا رسول اللّه . قال : ( المشّاؤون بالنميمة ، المُفرّقون بين الأحبّة ، الباغون للبراء المعايب )(1) .
* * *
الاعتدال في حبّ الصديق والثقة به :
ومِن الحكمة أنْ يكون العاقل معتدلاً في محبّة الأصدقاء والثقة بهم والركون إليهم دون إسرافٍ أو مغالاة ، فلا يصحّ الإفراط في الاطمئنان إليهم واطلاعهم على ما يخشى إفشاءه من إسراره وخفاياه .
فقد يرتدّ الصديق ويغدو عدوّاً لدوداً ، فيكون آنذاك أشدّ خطَراً وأعظم ضرَراً مِن الخصوم والأعداء .
وقد حذّرت وصايا أهل البيت ( عليهم السلام ) وأقوال الحكماء والأدباء ، نظماً ونثراً مِن ذلك :
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أنْ
_____________________
(1) البحار كتاب العشرة ص 191 عن الكافي .
الصفحة 457
يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما ، عسى أنْ يكون حبيبك يوماً ما )(1) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) لبعض أصحابه :
( لا تُطلِع صديقك مِن سرِّك ، إلاّ على ما لو اطّلع عليه عدوّك لم يضرّك فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً ما )(2) .
قال المعرّي :
خف مَن تودّ كما تخاف iiمعادياً وتـمارَ فـيمَن ليس فيه iiتمار فالرزء يبعثه القريب وما درى مـضرٌّ بـما تجنى يدا iiأنمار |
وقال أبو العتاهية :
ليَخلُ امرؤٌ دون الثقات بنفسه فما كلّ موثوق ناصح الحبّ
* * *
_____________________
(1) نهج البلاغة .
(2) البحار ، كتاب العشرة ص 39 عن أمالي الصدوق .