صلّى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومن معه من المسلمين إلى بيت المقدس فترة من الزمن ، فلمّا زاد إيذاء اليهود لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بعد تنامي قوّة المسلمين وانتشار الإسلام ، وقول اليهود : أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا ، كانوا يرون في اتباع المسلمين لقبلتهم سند وافتخار لهم .
فاغتمَّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لذلك وشقّ عليه ، حتّى نزلت الآية : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجدِ الحرامِ وحيثُ ما كُنْتُم فَولُّوا وجوهَكُم شَطْرَه ، وإِنَّ الذين أُوتُوا الكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أنه الحقُّ من ربهم ، وما اللهُ بغافلٍ عَمًّا يعملون ) البقرة : 144 ، فكان تغيير القبلة واحداً من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم .
إنّ النصارى كانوا يتّجهون في عباداتهم نحو الشرق ، واليهود نحو الغرب ، وقرّر الله تعالى أن تكون الكعبة قبلة للمسلمين ، وكانت في اتجاه الجنوب وسطاً بين الاتجاهين .
فوائد تغيير القبلة :
كانت نتيجة ذلك القطيعة التامّة بين المسلمين واليهود ، حيث كان اليهود يقلّلون من شأن المسلمين بسبب عدم استقلالهم في القبلة وتوجههم نحو القدس ، والتي يعتبرونها قبلتهم .
والإعلان عن استقلالية هذا الدين ، وفضل مكّة التي ينتمي إليها المهاجرون ، وموطن هذا الدين ورسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وكذلك تعبيراً عن انتساب الإسلام للحنفية التي جاء بها النبي إبراهيم ( عليه السلام ) المشيّد لأركان الكعبة .
إنّ اتّخاذ الكعبة قبلة ، كان من شأنه كسب رضا العرب واستمالة قلوبهم ، وترغيبهم في الإسلام ، ونبذ الأصنام ، وخاصة أنّ الكعبة كانت موضع احترام العرب وتقديسهم منذ أن رفع النبي إبراهيم ( عليه السلام ) قواعدها .
متى تم تحويل القبلة :
تمّ تحويل القبلة في السابع عشر من شهر رجب في السنة الثانية من الهجرة النبوية المباركة ـ وقيل : في الثامن من شهر محرم 2 هـ ـ أثناء الركعة الثانية من صلاة الظهر ، فقد أخذ جبرائيل ( عليه السلام ) يد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأداره نحو المسجد الحرام ، فتبعه الرجال والنساء في المسجد ، وقد صلّى الرسول ( صلى الله عليه وآله ) مع أصحابه ركعتين ، واستدار معه المسلمين تجاه الكعبة وصلّى الركعتين الباقيتين ، فكان أوّل صلواتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة ، فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين ، وكانت صلاة العصر من هذا اليوم أوّل صلاة كاملة صلاّها ( صلى الله عليه وآله ) تجاه الكعبة المشرّفة .
وقد طعن السفهاء من المشركين وأهل الكتاب وقالوا : ما وَلاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، فنزل قوله تعالى : ( َيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) البقرة : 142 .
وفي مجمع البيان عن القمي في قوله تعالى : ( َيَقُولُ السُّفَهَاء ) الآية ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : ( تحوّلت القبلة إلى الكعبة ، بعدما صلّى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكّة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس ، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر ) ، قال : ( ثمّ وجهه الله إلى مكّة ، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيرون على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ويقولون أنت تابع لنا ، تصلّي إلى قبلتنا ، فاغتم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك غمّاً شديداً ، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ، ينتظر من الله في ذلك أمراً ، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سلمة ، وقد صلّى من الظهر ركعتين ، فنزل جبرائيل فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة ، فقالت اليهود والسفهاء : ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) .