قال الله تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) الإسراء : 1 .
معنى الإسراء :
الإسراء والسري : السير بالليل ، والمسجد الأقصى : بيت المَقْدِس ، والقصي : البعيد ، وسُمِّي أقصى : لكونه أبعد مسجد عن مكة .
من معجزات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) التي سبق بها الأولين والآخرين من الأنبياء والمرسلين هي معجزة الإسراء والمعراج ، وذلك بعد وفاة زوجته أُم المؤمنين خديجة الكبرى ( عليها السلام ) ، وكذلك وفاة عمّه شيخ البطحاء أبو طالب ( عليه السلام ) ، وتثبتاً لفؤاد الرسول وتخفيف عنه أحزانه ، أسري به ( صلى الله عليه وآله ) إلى البيت المقدس ، ثم عرج به إلى السماء .
إنّ الروايات المروية عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) تصرِّح بوقوع الإسراء مرَّتين ـ أحدهما من المسجد الحرام ، والآخر من بيت أم هاني ـ وهو المستفاد من آيات سورة النجم ، حيث يقول سبحانه : ( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) النجم : 13 .
كيفية الإسراء :
واختلف المؤرخون في كيفية الإسراء ، فقيل كان إسراءه ( صلى الله عليه وآله ) بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، ثمَّ ومنه إلى السماوات العُلَى ، وعليه الأكثرية .
وقيل : كان بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ، ثم بروحه من بيت المقدس إلى السماوات ، وعليه جماعة .
وقيل : كان بروحه ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو رؤيا صادقة أراها الله نبيه ، ونُسب ذلك إلى بعضهم ، لكن المتأمِّلُ إلى آية الإسراء الكريمة ينكشف له أنَّ الله سبحانه أسرى بشخص الرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله ) ، وليس بروحه مجرَّدة عن الجسد .
فالآية صريحة في دلالتها أن الله أسرى بعبده ، وليس بروحه ، كما أنه إسراء وليس رؤيا صادقة ، كما يدَّعي البعض .
وكان الغرض من الإسراء رؤية بعض الآيات الإلهية الكبيرة العظيمة ، فقال تعالى : ( لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) الإسراء : 1 ، وقال : ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم : 18 .
إضافة إلى ذلك فإن هذه المعجزة الكريمة تزيد من ثبات المؤمنين وإيمانهم بقدرة الله سبحانه ، وبنفس الوقت زعْزَعَتْ ضِعاف الإيمان ، ومَن في نفوسهم مرض ، فارتدُّوا عن الإسلام ، ولم يثبت إلا من ثبت الإيمان في نفوسهم ، وبهذه الطريقة عُرف من ارتدَّ عن الإسلام ، ومن لم يثبت الإيمان في قلبه .
معجزة الإسراء :
عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قال : ( لَمَّا أُسريَ برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى بيت المَقْدس ، حَمَله جبرائيل على البراق ، فأتَيَا بَيت المقدس ، وعَرضَ عليه مَحاريب الأنبياء ، وصلَّى بها ، وَرَدَّه إلى مكة .
فمرّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في رجوعه بعير لقريش ، وإذا لهم ماء في آنية ، وقد أضلّوا بعيراً لهم وكانوا يطلبونه ، فشرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من ذلك الماء وأهرق باقيه .
فلمّا أصبح رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لقريش : ( إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس ، وأراني آثار الأنبياء ومنازلهم ، وإنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا وكذا ، وقد أضلّوا بعيراً لهم ، فشربت من مائهم وأهرقت باقي ذلك ) .
فقال أبو جهل : قد أمكنتكم الفرصة منه ، فاسألوه كم الأساطين فيها والقناديل .
فقالوا : يا محمّد إنّ هاهنا من قد دخل بيت المقدس ، فصف لنا كم أساطينه وقناديله ومحاريبه ؟ فجعل يخبرهم بما يسألون عنه ، فلمّا أخبرهم ، قالوا : حتّى تجيء العير ونسألهم عما قلت .
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ) .
فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ، ويقولون هذه الشمس تطلع الساعة ، فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص ، يقدمها جمل أورق ، فسألوهم عمّا قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
فقالوا : لقد كان هذا ، فأضلّ جمل لنا في موضع كذا وكذا ، ووضعنا ماءً فأصبحنا وقد أهريق الماء ، فلم يزدهم ذلك إلاّ عتوّاً ونفوراً ) .
معنى المعراج :
أمَّا المِعراج : فالمَعْرَج : المَصْعَد ، والطريق الذي تصعد فيه الملائكة .
وقد حدث المعراج في نفس الليلة التي حدث فيها الإسراء من المسجد الأقصى إلى السماوات العُلى ، وهي معجزة كبيرة للنبي محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فقد سخَّر الله سبحانه وتعالى لنبيِّه محمد ( صلى الله عليه وآله ) البراق .
فارتفع به ومعه جبرائيل ، ليُرِيَه مَلَكوت السماواتِ ، وما فيها من عجائِب صُنعِهِ ، وبدائِعِ خَلقه تعالى ، وقد تحدَّثت سورة النجم عن هذه المعجزة الكبرى ، فقال تعالى :
( بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْمِ * وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ) النجم : 1 ـ 18 .
حدوث المعراج :
اختلفت الروايات في تاريخ المعراج ، وذكر العلامة المجلسي أنّه وقع في الليلة السابعة عشرة ، مساء يوم ( 16 ) من شهر رمضان ، قبل ستة أشهر من الهجرة .
أهداف الإسراء والمعراج :
أوّلاً : إنّ حادثة الإسراء والمعراج معجزة كبرى خالدة ، ولسوف يبقى البشر إلى الأبد عاجزين عن مجاراتها ، وإدراك أسرارها ، ولعل إعجازها هذا أصبح أكثر وضوحاً في هذا القرن ، بعد أن تعرّف هذا الإنسان على بعض أسرار الكون وعجائبه .
ثانياً : يلاحظ : من قصة الإسراء والمعراج هو أن يشاهد الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) بعض آثار عظمة الله تعالى ، في عمليةٍ تربوية رائعة ، وتعميق وترسيخ للطاقة الإيمانية فيه ، وليعدّه لمواجهة التحديات الكبرى التي تنتظره ، وتحمل المشاق والمصاعب والأذايا التي لم يواجهها أحد قبله ، ولا بعده ·
ثالثاً : لقد كان الإنسان ولاسيما العربي آنئذٍ يعيش في نطاق ضيق ، وذهنية محدودة ، ولا يستطيع أن يتصور أكثر من الأمور الحسية ، أو القريبة من الحس ، التي كانت تحيط به ، أو يلتمس آثارها عن قرب ·
فكان والحالة هذه لابد من فتح عيني هذا الإنسان على الكون الرحب ، الذي استخلفه الله فيه ، ليطرح على نفسه الكثير من التساؤلات عنه ، ويبعث الطموح فيه للتعرف عليه ، واستكشاف أسراره ، وبعد ذلك إحياء الأمل وبث روح جديدة فيه ، ليبذل المحاولة للخروج من هذا الجو الضيق الذي يرى نفسه فيه ، ومن ذلك الواقع المزري ، الذي يعاني منه وهذا بالطبع ينسحب على كل أمة ، وكل جيل ، وإلى الأبد .
رابعاً : والأهم من ذلك : أن يلمس هذا الإنسان عظمة الله سبحانه ، ويدرك بديع صنعه ، وعظيم قدرته ، من أجل أن يثق بنفسه ودينه ويطمئن إلى أنه بإيمانه بالله ، إنما يكون قد التجأ إلى ركن وثيق لا يختار له إلاّ الأصلح ، ولا يريد له إلاّ الخير ، قادر على كل شيء ، ومحيط بكل الموجودات ·
خامساً : وأخيراً ، إنه يريد أن يتحدى الأجيال الآتية ، ويخبر عما سيؤول إليه البحث العلمي من التغلب ، على المصاعب الكونية ، وغزو الفضاء ، فكان هذا الغزو بما له من طابع إعجازي خالدٍ هو الأسبق والأكثر غرابة وإبداعاً ، وليطمئن المؤمنون ، وليربط الله على قلوبهم ، ويزيدهم إيماناً ·