لا يخفى أنّنا لازلنا بحاجة إلى تكريس الجهود ومضاعفتها نحو الفهم الصحيح والافهام المناسب لعقائدنا الحقّة ومفاهيمنا الرفيعة، ممّا يستدعي الالتزام الجادّ بالبرامج والمناهج العلمية التي توجد حالة من المفاعلة الدائمة بين الاُمّة وقيمها الحقّة، بشكل يتناسب مع لغة العصر والتطوّر التقني الحديث.
وانطلاقاً من ذلك، فقد بادر مركز الابحاث العقائدية التابع لمكتب سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ـ مدّ ظلّه ـ إلى اتّخاذ منهج ينتظم على عدّة محاور بهدف طرح الفكر الاسلامي الشيعي على أوسع نطاق ممكن.
ومن هذه المحاور: عقد الندوات العقائديّة المختصّة، باستضافة نخبة من أساتذة الحوزة العلمية ومفكّريها المرموقين، التي تقوم نوعاً على الموضوعات الهامّة، حيث يجري تناولها بالعرض والنقد
والتحليل وطرح الرأي الشيعي المختار فيها، ثم يخضع ذلك الموضوع ـ بطبيعة الحال ـ للحوار المفتوح والمناقشات الحرّة لغرض الحصول على أفضل النتائج.
ولاجل تعميم الفائدة فقد أخذت هذه الندوات طريقها إلى شبكة الانترنت العالمية صوتاً وكتابةً.
كما يجري تكثيرها عبر التسجيل الصوتي والمرئي وتوزيعها على المراكز والمؤسسات العلمية والشخصيات الثقافية في شتى أرجاء العالم.
وأخيراً، فإنّ الخطوة الثالثة تكمن في طبعها ونشرها على شكل كراريس تحت عنوان «سلسلة الندوات العقائدية» بعد إجراء مجموعة من الخطوات التحقيقية والفنيّة اللازمة عليها.
وهذا الكرّاس الماثل بين يدي القارئ الكريم واحدٌ من السلسلة المشار إليها.
سائلينه سبحانه وتعالى أن يناله بأحسن قبوله.
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله خير الخلق أجمعين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الاوّلين والاخرين.
موضوع تحريف القرآن لا يكفيه مجلس واحد ولا مجلسان ولا ثلاثة مجالس إذا أردتم أن نستوعب البحث ونستقصي جوانبه المتعددة المختلفة، أمّا إذا أردتم الافتاء أو نقل الفتاوى عن الاخرين من كبار علمائنا السابقين والمعاصرين، فأنقل لكم الفتاوى، ولكنّكم تريدون الادلّة بشيء من التفصيل.
فإليكم الان صورةً مفيدة عن هذا الموضوع، وبالله التوفيق.
سلامة القرآن من التحريف
لا ريب ولا خلاف في أنّ القرآن المجيد الموجود الان بين أيدي المسلمين هو كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو المعجزة الخالدة له، وهو الذي أوصى أُمّته بالرجوع إليه، والتحاكم إليه، وأفاد في حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين أنّ القرآن والعترة هما الثقلان اللذان تركهما في أُمّته لئلاّ تضلّ ما دامت متمسّكة بهذين الثقلين.
هذا الحديث مروي بهذه الصورة التي أنتم تعلمونها، وفي أحد ألفاظه: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عَلَيّ الحوض».
إلاّ أنّ بعض العامة يروون هذا الحديث بلفظ: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنّتي»، وقد أفردنا رسالة خاصة بهذا الحديث،
وهي رسالة مطبوعة منتشرة في تحقيق هذا الحديث سنداً، ودلالةً، إلاّ أنّي ذكرته هنا لغرض ما.
أئمّتنا صلوات الله عليهم اهتمّوا بهذا القرآن بأنواع الاهتمامات، فأمير المؤمنين أوّل من جمع القرآن، أو من أوائل الذين جمعوا القرآن، وهو والائمّة من بعده كلّهم كانوا يحثّون الاُمّة على الرجوع إلى القرآن، وتلاوة القرآن، وحفظ القرآن، والتحاكم إلى القرآن، وتعلّم القرآن، إلى آخره.
وهكذا كان شيعتهم إلى يومنا هذا.
والقرآن الكريم هو المصدر الاوّل لاستنباط الاحكام الشرعية عند فقهائنا، يرجعون إلى القرآن في استنباط الاحكام الشرعية واستخراجها.
إذن، هذا القرآن الكريم، هو القرآن الذي أنزله الله سبحانه وتعالى، وهو الذي اهتمّ به أئمّتنا سلام الله عليهم، وطالما رأيناهم يستشهدون بآياته، ويتمسّكون بآياته، ويستدلّون بها في أقوالهم المختلفة، فإذا رجعنا إلى الروايات المنقولة نجد الاهتمام بالقرآن الكريم والاستدلال به في كلماتهم بكثرة، سواء في نهج البلاغة أو في أُصول الكافي أو في سائر كتبنا، والمحدّثون أيضاً عقدوا لهذا الموضوع أبواباً خاصة، ولعلّ في كتاب الوافي أو بحار الانوكفاية عن أي كتاب آخر، حيث جمعوا هذه الروايات في أبواب تخص القرآن الكريم.
حسبنا كتاب الله
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلّف في أُمّته القرآن، وأمرهم بالتمسّك بالقرآن مع العترة، وعلى فرض صحّة الحديث الاخر، أمرهم بالتمسّك بالكتاب والسنّة، إلاّ أنّ من الاصحاب الذين يقتدي بهم العامّة من قال: حسبنا كتاب الله، ففرّق هذا القائل وأتباعه بين الكتاب والعترة، أو بين الكتاب والسنّة، وحرموا الاُمّة الانتفاع والاستفادة من العترة أو من السنّة، وقالوا: حسبنا كتاب الله، إلاّ أنّهم لم يحافظوا على هذا القرآن الكريم، هم الذين قالوا: حسبنا كتاب الله، تركوا تدوين الكتاب الكريم إلى زمن عثمان، يعني إلى عهد حكومة الاُمويين، فالقرآن الموجود الان من جمع الاُمويين في عهد عثمان، كما أنّ السنّة الموجودة الان بيد العامّة هي سنّة دوّنها الاُمويّون، ولسنا الان بصدد الحديث عن هذا المطلب.
المهم أن نعلم أنّ الذين قالوا: حسبنا كتاب الله، لم يرووا القرآن، تركوا تدوينه وجمعه إلى زمن عثمان.
ولكن عثمان الذي جمع القرآن هو بنفسه قال: إنّ فيه لحناً،
وار غنىً
والذين جمعوا القرآن على عهد عثمان وتعاونوا معه في جمعه قالوا: إنّ فيه غلطاً، قالوا: إنّ فيه خطأ.
إلاّ أنّك لا تجد مثل هذه التعابير في كلمات أهل البيت (عليهم السلام)، لا تجد عن أئمّتنا كلمة تشين القرآن الكريم وتنقص من منزلته ومقامه، بل بالعكس كما أشرنا من قبل، وهذه نقطة يجب أن لا يغفل عنها الباحثون، وأُؤكّد أنّك لا تجد في رواياتنا كلمة فيها أقل تنقيص للقرآن الكريم.
فالذين قالوا: حسبنا كتاب الله، وأرادوا أن يعزلوا الاُمّة عن العترة والسنّة، أو يعزلوا السنّة والعترة عن الاُمّة، هم لم يجمعوا القرآن، وتركوا جمعه إلى زمن عثمان، وعثمان قال: إنّ فيه لحناً. وقال آخر: إنّ فيه غلطاً. وقال آخر: إنّ فيه خطأ.(1)
ثمّ جاء دور العلماء، دور الباحثين، دور المحدّثين، فمنذ اليوم الاوّل جعلوا يتّهمون الشيعة الاماميّة الاثني عشرية بأنّهم يقولون بتحريف القرآن.
____________
(1) راجع: الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2 / 47، تفسير الرازي 22 / 74، الاتقان في علوم القرآن 1 / 316، فتح الباري 8 / 301، معالم التنزيل.